أن تصنع فيلمًا للجميع ولِلا أحد | حوار مع رائد أندوني

رائد أندوني | Comoedia

 

* استعملت مساومة الولادة الّتي تمكّنني من اختيار ولادتي فلسطينيًّا لأسترجع السيطرة.

* فكرة أنّ السينما بإمكانها أن تكون علاجيّة غير صحيحة.

* السؤال الأكثر أهمّية هو لماذا أصنع فيلمًا؟

* لم أسعَ لمعالجة أحد في «اصطياد أشباح».

 

وُلِدَ المخرج الفلسطينيّ رائد أندوني في مدينة عمّان عام 1967 لأسرة فلسطينيّة من بلدة بيت ساحور المجاورة لمدينة بيت لحم. وبعد أحداث أيلول الدمويّة عاميّ 1970 و1971، عاد أندوني برفقة عائلته إلى بيت ساحور، ليدخل السجن وهو في عمر الثمانية عشر عامًا، ومن ثمّ لينشط في المسرح، الرقص الشعبيّ، التصوير، تصوير الفيديو ولاحقًا العمل السينمائيّ.

بدأ أندوني عملة في السينما كمنتج مستقلّ عام 1997، وشارك في تأسيس دارتين للإنتاج، «دار الأفلام في فلسطين» و «Le Films de Zayna» في باريس. أخرج فيلمه الوثائقيّ الأوّل «ارتجال» عام 2005، ويدور الفيلم حول أسرة الثلاثي جبران الفلسطينيّة خلال صناعتهم لمقطوعتم الموسيقيّة «عود».

في فيلمه «Fix me» (2009) أو «صداع» بالعربيّة، تظهر نزعة أندوني الفردانيّة الباحثة عن إيجاد موقعها الخاصّ في ظلّ هويّة فلسطينيّة جمعيّة ثابتة وقويّة كما يصفها، وقد قام أندوني خلال الفيلم بتصوير 20 جلسة علاج نفسيّة خاصّة به في رام الله. يضمّ الفيلم مجموعة من الشخصيّات من بينها أفراد عائلة أندوني الخاصّة، ويستشكشف حاجته إلى إيجاد فرديّته الخاصّة في مكان يهيمن عليه الوعي الجمعيّ والهويّة الجمعيّة الطاغية.

وفي فيلمه الحاصل على «جائزة أفضل فيلم وثائقيّ» في «مهرجان برلين» (2017)، يقترب أندوني أكثر من التصالح مع الهويّة الجمعيّة، ولكن داخل إطار مجموعة من الأسرى الّذين يجتمعون داخل الفيلم لمحاولة بناء سجن إسرائيليّ يحاولون فيه إعادة عيش تجربة الأسر لغاية العثور على شبح السجن الّذي يسكنهم.

في هذا الحوار الّذي تجريه فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة مع أندوني، نتحدّث معه عن فردانيّته في السينما، وعن فيلم «صداع» و«اصطياد أشباح» والعلاقة بينهما، وعن حضوره الشخصيّ الطاغي في أعماله السينمائيّة، وبدايات عمله السينمائيّ.

 

فُسْحَة: أريد العودة إلى وقت اعتقالك عندما كان عمرك ثمانية عشر عامًا، ومُنِعْتَ من السفر لسبع سنوات بعد ذلك. ما الّذي تتذكّره عن هذه السنوات السبع، وماذا فعلت خلالها؟

رائد: عمليًّا تلك السنوات كانت بداية الانتفاضة الأولى، وأعتقد أنّ تلك المرحلة لعبت دورًا كبيرًا في حياتي حتّى اليوم. كلّ شيء كان مغلقًا آنذاك، الأفق، السفر، الدراسة، كلّ شيء، والانتفاضة نشطة، وكنت لتوّي قد خرجت من السجن، وكنت أتحرّك ضمن خيارات محدودة، ولكن حتّى هذه المحدوديّة، حتّى في السينما، تعطيك أفضليّة، لأنّها أحيانًا تكون آليّة للبحث الأعمق، فبحثك الأفقيّ غير مُتاح، ولذلك أنت مُجبَرٌ على البحث عميقًا في الأشياء. ولا أتكلّم عن نفسي في عمر الثمانية عشر وكأنّني كنت فيلسوفًا، ولكن أتكلّم عن شخصيّة كانت تبحث عن نفسها وتكتشف نفسها مثل أيّ شخصيّة أخرى وبشكل غريزيّ. اشتغلت عديد الأشياء في تلك الفترة؛ كنت نشطًا في فرقة مسرح ورقص شعبيّ، وكنت أشتغل في التصوير الفوتوغرافيّ والفيديو، ومن ثمّ اشتريت آلة لطباعة الصور وتحميضها، وكنت بين الأسبوع والآخر أُعتَقَلُ وأخرُجُ من السجن؛ تلك كانت دائرة الحياة الّتي كانت محصورة في مدينة بيت لحم، في بضعة كيلومترات. وإذا أردتُ التفكير في تلك الفترة بشكل إيجابيّ، سأقول أنّها علّمتني الارتجال، وكيف تتمكّن من إيجاد خطواتك ضمن المُتاح، وتكتشف الأشياء على حقيقتها بعيدًا عن النظريّات الأكاديميّة والمدارس النظريّة.

 

فُسْحَة: تكرّر مفردات مثل المحدوديّة والمتوفّر، لديّ سؤال إن كانت لديك رغبة قويّة للسفر خلال تلك السنوات؟

رائد: انظُر، لم يكن لديّ أيّ رغبة قويّة في تلك الفترة، كلّ شيء كان مجرّد فانتازيا، مثلًا، كان لديّ رغبة أن أسافر لأدرس الإخراج المسرحيّ في الاتّحاد السوفييتيّ، لا أعرف لماذا وكان الأفضل أنّي لم أفعل ذلك. ولكن لم يكن لديّ رغبات قويّة تجاه أشياء بعينها، كان لديّ رغبات متعدّدة تجاه عديد الأشياء.

 

فُسْحَة: لكن كان ثمّة شخصيّة في داخلك - وهنا أبني افتراضًا - شعرت بالغضب لعدم قدرتها على السفر، وقد ظهر هذا الغضب أو الاستياء في فيلم «Fix Me» أو «صداع» (2009). أنت سُجِنْتَ لمدّة عام، لكنّك لاحقًا سُجِنْتَ في سجن أكبر هو فلسطين، حيث كلّ شيء مغلق، فعلت عديد الأشياء صحيح، ولكنّك شعرت لاحقًا بأنّك كنت تتحمّل تبعات ولادتك فلسطينيًّا، ما جعلك تقوم بتلك التسوية الّتي تحدّثت عنها في فيلم «صداع» مع المعالج النفسيّ، الّتي ترسم فيها سيناريو اختيارك لتكون فلسطينيًّا لو خُيِّرتَ عند ولادتك أن تختار ما تكون. وكأنّك بتلك التسوية، تُسوِّي غضبًا داخليًّا، وتتصالح مع شخصيّة متذمّرة من شخصيّة أخرى عاشت كلّ تلك السنين في السجن، أو أنّك ربّما شعرت بالخجل من غضبك أصلًا؟

رائد: دعني أقول شيئًا في البداية، أيّ شخص لدية الإمكانيّة أو الشخصيّة ليكون صانع أفلام عليه التحلِّي بصفة هامّة من بين صفات مهمّة أخرى مثل امتلاك المخيّلة الواسعة، وقدرة السرد المقنعة، ولكنّ الأهمّ هو امتلاك المنظور. سأعطيك مثلًا صغيرًا يفسّر لك من أين تأتي المسافة الّتي أشعر بها بين وبين الناس والّتي تحدّثت عنها كثيرًا في «صداع»، وهي ليست نتاج غضب على المجتمع ولا على كوني فلسطينيًّا، ولكنّها أكثر محاولة لاكتشاف الفردانيّة في ظلّ وجود هويّة جمعيّة على درجة عالية من الثبات والقوّة، وأفهَمُ أنّ الصراع الجمعيّ الّذي يعيشه الناس يفسّر ذلك الثبات وتلك القوّة؛ ولكن في ظلّ هذه الهويّة يصبح مكان الصوت الفرديّ غريبًا داخل المجتمع، لأنّك يجب أن تغرّد مع المجموعة لتكون جزءًا منها.

أعود إلى السؤال المتعلّق بالسينما والمتعلّق بالمنظور. "طعام أمّي ألذّ طعام في العالم"، هذه مقولة، وإن أعطيتها لأكثر من شخص، سيوافق ويقول بالطبع، لأنّها محترفة طبخ، وربّما يقول، لأنّني معتاد على طبخها، وربّما لأنّ ثمّة جينات بشريّة تحمل ذاكرة الطعام وقد توارثت عن جدّ جدّي لأمّي تفضيلًا لنوع من أنواع الطعام.

ما أقوله هو أنّ شيئًا صغيرًا يمكن أن يُنظَرُ من أكثر من اتّجاه، والسينما هي منظور، والمنظر للإنسان الّذي يشتغل في السينما قد لا يكون جوابًا بالضرورة، ربّما يكون مجموعة من الأسئلة، وأعتقد أنّ ذلك الّذي لديه منظور مختلف مبنيّ على السؤال، الاستفسار والبحث أبعد من الظاهر، لديه إمكانيّة أن يكون مُبدِعًا، ليس سينمائيًّا بالضرورة بل في أيّ حقل آخر. عودة إلى «صداع»، أعتقد أنّ السؤال الّذي تعاملت معه في الفيلم هو حالة الاغتراب الّتي كنت أعيشها في فلسطين، وهي ليست نابعة من غضب على كوني فلسطينيًّا، بل العكس، عندما استعملت مساومة الولادة الّتي تمكّنني من اختيار ولادتي فلسطينيًّا كانت مساومة نفسيّة. أعتقد أنّ الناس المُضطّهَدة بطريقة أو بأخرى وكي لا يتحوّلوا إلى ضحيّة مطلقة، تبحث عن وسائل تسترجع من خلالها قوّة اتّخاذ الخيار، وقوّة القدرة على الفعل، وأرى أنّ هذه إحدى الوسائل النفسيّة الّتي يمكن اللجوء إليها من قبل الناس الّتي تعيش القهر اليوميّ.

 

فُسْحَة: شعرت في «صداع» وكأنّك مثل من يرى وعاش شيئًا يراه وعاشه الجميع، ولكنّهم بطريقة ما تمكّنوا من دفنه عميقًا وتعايشوا معه، في حين أنّك الوحيد الّذي يصرخُ مُشيرًا إلى عدم طبيعيّة الشيء، ومجاز الصراخ هنا هو الصداع. الغضب الّذي أتكلّم عنه غضب مركّب؛ أوّلًا الغضب على النابع من شعورك باغترابك الداخليّ كسجين قبل أن تكون رائد السجين، وتحديدًا رائد النرجسيّ، ومن ثمّ النابع من كونك سجين نرجسيّ. والاغتراب بالدرجة الأولى يجعلك غير قادر على دفن الصدمة وغير قادر على التعامل معها، بينما نرجسيّتك تجعل من تجربة السجن مميّزة بطريقة أبعَدَ بحيثُ لا تكون جزءًا من تجربة جمعيّة، بل هي تجربة سجن رائد الشخصيّة أكثر ممّا هي تجربة الشعب الفلسطينيّ. نرجسيّتك وانفصالك الاجتماعيّ ما جعلاك غير قادر على دفن الصدمة، في حين تمكّن الآخرين من بناء صلاتهم الاجتماعيّة الّتي مكّنتهم من دفن الصدمة وحتّى عدم الحديث عنها رغم إدراكهم لها.

رائد: ولكن هل دفن الأزمات عمل صحيّ؟ لقد رأيت في «اصطياد أشباح» (2017) ماذا حصل عندما فتحنا منفذًا صغيرًا للسجناء المحرّرين. دفن الصدمات ليس صحّيًّا، وأعتقد أنّ الفنون هنا هي مرآة للروح، تحوّل الشيء غير المحكيّ لمرئيّ ومسموع، تحوّل الإحساس إلى صورة، وتبحث عن الأشياء العميقة المدفونة. وبالتالي، أعتقد أنّ مهمّتي كصانع أفلام البحث عن هذه الأشياء المدفونة. لا أنكر أنّ البحث يأتي من احتياج شخصيّ، وربّما يكون نرجسيّ، لا مشكلة لديّ في ذلك. كلّ الفنون الجيّد برأيي تبدأ من دوافع فرديّة، ولكن، مثلما قالت لي أمّي رحمها الله:"أنت رأسك يوجعك، وماذا يهمّ الناس في ذلك؟". هنا السؤال يكون كم تستطيع تجاوز سؤال الفردانيّة في اتّجاه صناعة عمل يمكن أن يرتبط به كثيرون عندما يرونه يمكن أن يشعروا بأنّ العمل يتكلّم عنهم، ويقول أشياءً هم غير قادرين على البوح بها.

 

فُسْحَة: ولكن أزعجك ربّما عدم تعامل الآخرين أو عدم وقوفهم على شعورهم بالصدمة بشكل دائم، أزعجك ذلك على مستوىً فرديّ.

رائد: كلّا لم يُزعجني، لقد تعاملت مع نفسي على مستوى فرديّ، في «صداع» تحديدًا تعاملت مع نفسي. لا أستطيع الحكم على الآخرين، فقط تعاملت مع نفسي.

 

فُسْحَة: يكشف «اصطياد أشباح» أنّك كنت تبحث عن «الأخويّة»، عن أشخاص تتمكّن تشاركهم إعادة عيش التجربة. بينما في «صداع» كان صداعك تعبير عن عدم قدرتك على فهم الآخرين ومقدار استنكارك لعدم قدرتهم على التواصل معك لأنّهم غير قادرين على التواصل مع أنفسهم بالدرجة الأولى.

رائد: أو استنكار لعدم قدرتي أنا على التواصل معهم، لماذا أستكر عدم قدرتهم على التواصل معي؟

 

فُسْحَة: لأنّك كما ذكرت في الفيلم، ترى الأمور من الخارج.

رائد: صحيح، ولكنّ قدماي على الأرض. انظُر، تكلّمنا عن المنظور من قبل، هل تذكر مشهد الجمل في الفيلم؟ يُسمّى الجمل في الفلسفة بـ «عين الفيلسوف»، لأنّ الجمل لديه قدرة النظر إلى الواقع من ارتفاع ولكنّ قوائمه تظلّ على الأرض. ليست عين الصقر أو عين العصفور، لا أتحرّك في الأعلى وأنظر إلى المجتمع، كلّا، قدماي على الأرض طوال الوقت ولكن لديّ منظر مختلف للأشياء، ومنظوري المختلف أتعامل معه من خلال السينما والأفلام.  

 

رائد أندوني في فيلم «Fix me» أو «صداع» (2009)

 

فُسْحَة: هل شعرت بإشكاليّة توريط الآخرين في بحثك الشخصيّ، الآخرين بمعنى العائلة، في «صداع» أو «اصطياد أشباح»؟

رائد: أعتقد أنّه لو لم تكن العائلة في الفيلم لكان مزيَّفًا، ولكان فيه شيئًا ناقصًا، هم جزء من القصّة. انظُر، في «صداع» حاولت أن أذهب إلى الأشياء الّتي لها معنى في حياتي، وأعني الدائرة الأساسيّة الّتي يعيشها المرء بين العائلة، الأصدقاء والعمل. وعندما اخترت الأشياء الّتي أذهب إليها، اخترت إمّا الأشياء الّتي ظهرت في غرفة العلاج النفسيّ، عندما مثلًا طلب منّي المعالِجُ صورًا عائليّة بدأت بتتبّعها وذهبت لزيارة أختي لألاحق بعذ الذكريات. أو الأشياء الّتي كانت تصادفني في الحياة وأجلبها معي إلى غرفة العلاج النفسيّ. لقد صوّرت «صداع» على مدار عشرين أسبوعًا من جلسة العلاج النفسيّ الأولى وحتّى الأخيرة، لم أصوّر شيئًا قبل أو بعد العلاج النفسيّ، وذلك حدّ وضعته لنفسي، إضافة إلى حدّ آخر وضعه المعالِجُ لي وهو منعي من رؤية الجلسات الّتي كنّا نصوّرها، لأنّه اعتقد أنّني لو رأيت سأرجع إلى العلاج النفسيّ مع أجندة خاصّة بالفيلم وبحسب كلامه:" نحن لا نريد التركيز على الفيلم، بل على العلاج فقط". وبالتالي اشتغلت ضمن هذه الحدود، فتخيّل عملي في عشرين أسبوع من العلاج النفسيّ، البيئة الّتي سأصنع داخلها الفيلم مرتبطة بهذه الدوائر الّتي تشتغل معي داخل هذه الغرفة ومحيطها.

 

فُسْحَة: كنت مصرًّا في «صداع» على أنّك غير قادر على أن تكون جزءًا رغم كونك جزءًا وأنّك تدفع ثمن ذلك الرفض. ما رأيته في الفيلم أنّك شخصيّة محظوظة اجتماعيًّا، فكثيرون يحبّونك من عائلتك وأصدقائك من الّذين وافقوا على الظهور في الفيلم. عندما تقول أنّك غير قادر على أن تكون جزءًا، هل ذلك يعني أنّك غير قادر على مبادلة العاطفة، وهل كنت أقدر على مبادلة العاطفة بعد إنجاز الفيلم؟

رائد: السينما لا تعالج، فكرة أنّ السينما بإمكانها أن تكون علاجيّة غير صحيحة. أعتقد أنّك ربّما تكون محقًّا، قد يكون لديّ محدوديّة في التواصل العاطفيّ، وربّما لذلك أشتغل في السينما كنوع من أنواع التعويض، لأنّني كما ذكرت لك من قبل، السينما هي بناء عاطفيّ، تحويل للمحسوس إلى مرئيّ ومسموع، فأنت عمليًّا تجسّد العاطفة في شيء. إذن نعم، ربّما، ولكن من أي يأتي ذلك؟ لا أعرف، هذه أسئلة مركّبة، بمعنى التعامل مع العاطفة بتلقائيّة بدون قيود أو جدران. كثيرون تحدّثوا في هذا الأمر، عن اضطّرار الإنسان الفلسطينيّ إلى بناء جدران حماية، خاصّة إن كان حسّاسًّا، وأعرف كم أنا شخصيّة حسّاسة، وربّما لهذا السبب ذهبت إلى السينما. وأيضًا عن اضطّرار من لديهم حساسيّة هشّة بناء أسوار من الحماية، ولكنّ هذه الأسوار تعمل في اتّجاهين؛ هي لا تمنع الآخرين فقط من الوصول إليك، ولكن أيضًا تمنعك أنت أيضًا من الوصول إليهم.

 

فُسْحَة: هل تغيّر ذلك بعد إنجاز الفيلم؟

رائد: كلّا، بالطبع لا، الأفلام لا تُعالج.

 

فُسْحَة: كأنّك إذن وقفت في محطّة قطار لبعض الوقت ومن ثمّ مضيت في حال سبيلك دون أن تؤثّر فيك أيّ تجربة؟

رائد: كلّا، بالطبع كلّ فيلم يترك فيك أثرًا ما، وكلّ فيلم يغيّر فيك بطريقة معيّنة، ولكنّ ما أقوله هو أنّ الأفلام لا تعالج فقط. انظُر، فيلم «صداع» ساعدني لأفهم نفسي، لأكون أكثر صدقًا مع نفسي. في «صداع»، وخلال عمليّة المونتاج، وكانت عمليّة خاصّة وأثّرت عليّ بشكل كبير. وصلت إلى غرفة الإنتاج ومعي تقريبًا 150 ساعة تصوير، وفجأة خلال العمل نظرت إليه، أصبح رائد المُصوَّر هو الآن وليس أنا، وخلال عمليّة الإنتاج تأخذ انطباعات عن الموادّ وملاحظات، وعادة عندما أمرّ في هذه التجربة أبحثُ عن المشهد الّذي يقنعني، وأحاول التمييز بين الحقيقيّ وغير الحقيقيّ. كنت أجلس بجانب المنتجة وفجأة نظرت إلى نفسي وقلت لها:"انظُري إليه، إنّه كذّاب، انظُري في عينيه، إنّه يكذب على الدكتور، ذلك واضح من عينيه". فجأة أصبَحَ هو وليس أنا.

فكرة الخروج من نفسك والنظر إلى نفسك من عين المخرج الّذي يجب أن يحكم عليك بطريقة أو بأخرى، وليس سلبًا أو إيجابًا، ولكن أن يميّز صدقك من كذبك، تجعلك تتعرّى أمام نفسك. وأعتقد أنّ «صداع» إن ساعدني بشيء، ساعدني في فهم نفسي بطريقة أفضل، وأن أكون شفّافًا مع نفسي. فإن أخبرتني كما أخبرتني قبل قليل بأنّ لديّ مشكلة في تبادل العاطفة، أعرف المشكلة وأتحدّث عنها بلا خجل، ولو سألتني هذا السؤال قبل «صداع»، لأنكرت وجادلتك، ولكنّي الآن في مرحلة من الوضوح، وهنا السينما تلعب دورًا في ذلك. ولكن أن تعالج السينما الصدمة، لا أعتقد ذلك، ولكنّها تساعدُ في شيء آخر، عند الفلّاحين ثمّة شيء يُسمّى بالطمّاسات الّتي توضع على رأس البغل عندما يحرث الأرض كي تمنعه من الرؤية يمينًا أو شمالًا، وتبقيه في خطّ سير مستقيم. نحنُ جميعًا نعيش مع طمّاسات منذ لحظة ولادتنا حتّى نظلّ في خطّ مستقيم داخل النظام، بينما السينما توسّع هذه الطمّاسات، توسّع المنظور، وهنا أهمّيّة السينما؛ في الأسئلة. ومن يشتغل في السينما عليه التعامل مع نفسه بصدق، أمّا أنّها علاجيّة، لا أعتقد ذلك.

 

فُسْحَة: هل ذهبت إلى العلاج النفسيّ قبل أو بعد «صداع»؟

رائد: كلّا، لم أذهب قبل أو بعد، ولكنّي ذهبت بعد «اصطياد أشباح».

 

فُسْحَة: ما السبب؟

رائد: لا أعرف، «اصطياد أشباح» كان تجربة صعبة عشت معها لفترة طويلة جدًّا. لقد استشرت معالجة نفسيّة على منهجيّة الفيلم، وكذلك جاء الدكتور النفسيّ الّذي كان معي في «صداع»، كان يأتي إلى موقع التصوير كلّ يومين مرّة للتأكّد من أنّني لا أتصرّف بطريقة تؤذي الآخرين، وقد أعطاني عديد النصائح المفيدة مثل ضرورة عدم وجود أيّ شخص بعقد عمل في موقع التصوير، كلّ شخص يجب أن يكون لديه حرّيّة الاختيار أو الانسحاب في أيّ لحظة. كان ممنوعًا عليّ إجبار أيّ شخص على أن يمثّل أيّ دور، كان ذلك عائد إليهم، فما أردت فعله هو فتح مساحة آمنة لهم ليُعيدوا عيش تجربة صادمة، وكان يجب أن تكون البيئة آمنة ومن أهمّ شروطها أن يكون الشخص غير مجبر على فعل أيّ شيء وإلّا سأكون عمليًّا أعدته إلى السجن. عشت مع «اصطياد أشباح» خمس إلى ستّ سنين تقريبًا بين كتابة، إخراج، تصوير، مونتاج، ومن ثمّ مرافقة الفيلم في المهرجانات. بعد ذلك ذهبت أيضًا إلى العلاج النفسيّ لأسباب شخصيّة ولأسباب متعلّقة بالمشروع أيضًا.

 

فُسْحَة: لقد جلستُ في غرفة العلاج النفسيّ الّتي جلست فيها في مبنى «الهلال الأحمر الفلسطينيّ»، ولكنّي لم أرجع مرّة أخرى. العلاج النفسيّ بحاجة إلى شجاعة، وأتساءل إن كانت الكاميرا هي مصدر شجاعتك؟

رائد: لا أعرف إن كنت سأذهب إلى العلاج النفسيّ لولا الفيلم، لا أعتقد أنّني كنت سأذهب.

 

فُسْحَة: بسبب؟

رائد: لأنّ ذلك ليس جزءًا من حياتنا في فلسطين، الآن أنا في باريس والعلاج النفسيّ جزء من الحياة العامّة وضغوطاتها، فثمّة جلسة علاج نفسيّة مرّة كلّ أسبوع أو أسبوعين لترتّب أمورك من جديد في غرفة العلاج. ذلك ليس جزءًا من الثقافة العامّة في فلسطين.

 

فُسْحَة: أتساءل إن كان الأمر عائدًا إلى كونك مؤدٍّ، وإلى كون أدائيّتك المتجذّرة في داخلك تجعلك قادرًا على مواجهة جوّانيّتك المظلمة وما دُفِنَ فيها فقط أمام الكاميرا، وبمساعدة من الكاميرا؟

رائد: ربّما يكون ذلك ممكنًا، عندما أكون أمام الكاميرا أو على المسرح يختلف أدائي، تختلف طاقتي.

 

فُسْحَة: متى تكون أكثر صدقًا أو أكثر تواصلًا مع نفسك؟

رائد: لا أعرف، لكن أعرف أنّني أحبّ طاقتي عندما أكون على المسرح أو أمام الكاميرا، أشعر بامتلاك مستوى جديد من الطاقة يفيض داخلي، وذلك متعب، لا أعرف، هذا ليس سؤالًا فكّرت فيه مطوّلًا.

 

فُسْحَة: لديّ افتراض أريد فحصه معك؛ أعتقد أنّك ترتجل على المسرح و’تنضبط‘ في الواقع. بمعنى أنّك مستعدّ على أن تكون في حالة ارتباك شعوريّة ونفسيّة على المسرح أو وراء الكاميرا، حيثُ تتكشَّفُ لك مشاعرك، أو تكشِفُها، أو تنكشف عليها، ولكن لديك شعور عميق أنّك عندما تقترب من منطقة شعوريّة غير قادر على تحمّلها نفسيًّا أو معرفيًّا فيمكنك عندها الانسحاب ببساطة بقول كلمة Cut. الـ Cut هي كلمة السرّ الّتي تستطيع قولها وتُنهي كلّ شيء، ولكن لو ذهبت إلى تلك المنطقة الشعوريّة غير المعروفة في الحياة الواقعيّة، لو أردت إجراء ذلك البحث في الحياة الواقعيّة، فلن يكون آمنًا بالنسبة لك كما هو على المسرح لأنّك لا تستطيع أن توقف المشهد وتوقف البحث.

رائد: ربّما يكون بعض ما تقوله صحيحًا، وأستطيع أن أضيف عليه قليلًا. كان يوم التصوير خلال العمل على «اصطياد أشباح» يبدأ من الخامسة صباحًا وينتهي منتصف الليل، وذلك يومي أنا وليس يوم الآخرين. في أيّام كتلك أمتلك طاقة تعادل عشر أضعاف الطاقة العاديّة الّتي أبذلها في يوم عاديّ، سواءً طاقة ذهنيّة، أو طاقة تركيز، أو طاقة جسديّة، أو الآلات الّتي تشتغل في الرأس. لا أعرف إن كان ممكنًا بذل تلك الطاقة بشكل يوميّ على مدار أيّام السنة، ربّما يستطيع البعض فعل ذلك، لكنّني لا أستطيع فعل ذلك. بقدر ما هي ممتعة تلك الطاقة، لكنّها تظلّ في النهاية مُتعبة، ودائمًا ما يظهور شعور هائل بالفراغ بعد انتهاء التصوير، فراغ غريب. تنتهي من التصوير وتترك الموقع وتذهب لتتمشى في البلد، فتشعر أنّ البلد بطيئة وأنّ كلّ شيء بطيء والحياة لها وقع بطيء وأنّ كلّ الأشياء بلا معنى. ثمّة فجوى كبيرة بين التصوير والواقع، وتعرف أنّه يمكنك أن تقضي حياتك في موقع التصوير.

في النهاية أشعر بأنّي مُجبَرٌ على العيش بين العالمين، العالم الواقعيّ، والفانتازيا الّتي يبنيها المرء لنفسه. حاليًّا أشتغل على كتابة سيناريو وأجد نفسي أحيانًا لا أخرج من البيت لمدّة أسبوع. أعيش مع القصّة، الشخصيّات وأعيش داخل السيناريو. ولكن أيضًا، قضيت ثلاثة شهور في فلسطين لأتمكّن من كتابة السيناريو المتخيّل الآن لأنّه مبنيّ على حالات واقعيّة. أنا أصلًا عالق بين العالمين، وللتمكّن من العيش بينهما باستمرار عليك أن تجد طرقًا جديدة، وذلك لا يكون سهلًا أبدًا.

 

فُسْحَة: هذه أوّل مرّة تكتب فيها خيالًا؟

رائد: هذه أوّل قصّة خياليّة بالكامل. لقد كتبت «اصطياد أشباح» خيالًا في البداية، لكن لاحقًا خرج بالصورة الّتي رأيته عليها. الآن أنا أكتب خيالًا محضًا.

 

فُسْحَة: كم استغرقك من الوقت بين «صداع» و«اصطياد أشباح» لتعرف أنّ ثمّة أشباحًا يجب اصطيادها وصدمات يجب التعامل معها؟

رائد: الاكتشاف يحدث ضمن عمليّة تطوّر، وذلك يحدث بين الكتابة وتطوير الفكرة وذلك عادة ما يمتدّ لسنوات. تبدأ بالعمل على شيء دون أن تكون مدركًا له بالكامل، ومن ثمّ تكتشف الطريق. في «اصطياد أشباح» بدأت القصّة بأنّني أريد صناعة فيلم عن «سجن المسكوبيّة»، لم أبدأ الفيلم لاصطياد الأشباح الّتي تظلّ معنا بعد خروجنا من السجن. إن كان على المخرج أن يكون صادقًا مع نفسه فعليه أن يواجه سؤال لماذا؟ لماذا صناعة هذا الفيلم؟ لأنّه من الممكن أن تفكّر بعمل فيلم عن «المسكوبيّة»، وتجد قصّة ودراما جميلة، ولكن إن لم تتوقّف عند اللحظة الحقيقيّة لتسأل لماذا أصنع هذا الفيلم، لأنّ هذا السؤال الّذي منه يُخلَقُ المعنى الحقيقيّ للمشروع، وهو سؤال في تطوّر دائم، تستطيع اكتشاف إجابته طبقة طبقة لا مرّة واحدة.

عادة عند العمل على مشروع معيّن، تُفتَحُ أكثر من وثيقة، الأولى وثيقة القصّة، وثيقة المعالجة السينمائيّة للقصّة، والوثيقة الأهمّ وهي وثيقة نوابا المخرج. تُفتَحُ الوثائق الثلاث ويُشتَغَلُ عليهم في الوقت نفسه، وتنتقل من واحدة إلى أخرى في ضياع كامل، وتكون الوثيقة الثالثة هي دليلك؛ إن تمكّنت من جعلها وثيقة مقنعة وصادقة، تبدأ الأشياء بترتيب نفسها، وتأخذ معنى حقيقيًّا وصادقًا. على الأقلّ، تكون صادقًا في إجابة سؤال لماذا هذا المشروع، لماذا المسكوبيّة ولماذا أشتغل في السينما أصلًا.

 

فُسْحَة: هل كانت فردانيّتك طاغية خلال «اصطياد أشباح»؟

رائد: على العكس، فردانيّتي كانت طاغية في «صداع»، أعتقد أنّ العلاقة بين المشروعين أنّني كنت في «صداع» أبحث عن الصوت المختلف، الصوت الّذي أمتلكه، إذا أردت تسميته بفردانيّة، أو بـ الأنا، أيًّا يكن، ولكنّني عمليًّا كنت أبحث عن الصوت المختلف وعن الهويّة الفردانيّة. في «اصطياد أشباح» اشتغلت مع مجموعة، ليس ثمّة بطل للفيلم، المكان هو البطل، المجموعة هي البطل، تمامًا على العكس من «صداع»، ولكن فيه صوت مختلف كلّيًّا خارج السرب في التعامل مع سؤال الأسرى، سواءً على صعيد اللغة السينمائيّة الفردانيّة أو المضمون المتمثّل بالبحث عن الأشباح الّتي تعيش داخل المعتقلين الفلسطينيّين. بقدر ما هو جماعيّ، بقدر ما فيه فردانيّة في لغته السينمائيّة، وتلك اللغة هي أنا، في «صداع» كنت أبحثُ بنفسي، ولكن في «اصطياد أشباح» أنا اللغة السينمائيّة وطريقة العمل، وهذي هي الخطوة بين الفيلمين. أعتقد أنّني كنت في تصالح مع «اصطياد أشباح» مع الهويّة الجماعيّة، وأعتقد أنّ الشخصيّات الّتي تمتلك شيئًا فردانيًّا لا تبحث عن الانعزال، بل عن الاعتراف، الاعتراف بها، وفي واقع مثل الواقع الفلسطينيّ لا يُعترَفُ كثيرًا بالأصوات الفردانيّة.

 

فُسْحَة: هل كان رمزي، الشخصيّة في «اصطياد أشباح»، سجينًا من قبل؟

رائد: أجل، ولكنّه الوحيد الّذي لم يشارك تجربة اعتقاله. رمزي كان في الفيلم بسبب امتلاكه لخبرة التمثيل، وكانت نظريّتي أنّ من سيلعب دور السجين يجب أن يكون ممثًّلًا محترفًا، لأنّني لو أحضرت سجينًا محرّرًا لا يمتلك ملكة التمثيل والتعامل مع مشاعر ربّما أؤذيه.

 

رائد أندوني في فيلم «اصطياد أشباح» (2017) 

 

فُسْحَة: هل استخدمت رمزي كمدخل للسجناء المحرّرين من خلال ممارسات عقابه وسجنه ليتعرّفوا من خلاله تدريجيًّا على أنفسهم؟

رائد: كنت آمل أن ينفتح رمزي على تجربة اعتقاله مثل الآخرين، ولكنّهم كانوا أشجع منه. لا أعرف. بوصفه شخصيّة فيلم وثائقيّ، رمزي كان خطأ بالنسبة إليّ. ولكنّني كما أخبرتك، مساحة الخطأ عندي تقريبًا عشرين بالمئة، وبالتالي فلا بأس. رمزي لم يكن كريمًا في مشاعره مثلما كان البقيّة، كان كريمًا في عطائه كممثّل فقط.

 

فُسْحَة: ربّما فعل مثلك، ولكن بالعكس، اختبأ وراء الفنّ.

رائد: رمزي جاء على الموقع ممثّلًا، وسجن نفسه في هذه الصورة، وحاولت كثيرًا دفعه لينفتح على مشاعره ولكنّني لم أفلِحْ في ذلك. كان قد بَنى سورًا صلبًا حول نفسه، ولكنّ ذلك كان جزءًا من التجربة، وأنا راضٍ تمامًا عن النتائج، ثمّة اختيارات، وثمّة رحلة عليّ متابعتها وحصد أفضل نتائجها ومن بين النتائج ثمّة مفاجآت.

 

فُسْحَة: أيضًا كان رمزي أكثر شخصيّة تحدّتك في الفيلم.

رائد: نعم، من خلال مشهد اختيار الممثّلين. انظُر، في هذا المشهد ثمّة تأرجح بين الحقيقة واللعبة، لأنّها كانت المرّة الأولى الّتي أقابل فيها نصف السجناء المحرّرين، بينما النصف الآخر كنت أعرفهم مثل رمزي، ولكنّنا ارتجلنا. لم أخبره ماذا سأسأله ولم أكن أعرف بماذا سيجيبُني. أيضًا كان منذر جوابرة، الفنّان التشكيليّ، من ضمن الشخصيّات الّتي أعرفها من قبل، ولكنّنا لا نعرف إلى أين سنذهب أمام الكاميرا. مرحلة اختيار الممثّلين هي لعبة، بين الحقيقة وما بين اللعب.

 

فُسْحَة: كان ثمّة مشهد آخر لكما.

رائد: عندما ضربته، صحيح.

 

فُسْحَة: ظهر في تلك اللحظة كأنّ ثمّة نرجسيّتان تتصارعان داخل الفيلم.

رائد: ربّما يكون ذلك صحيحًا، انظُر، كان اختيار من سيمثّل دور السجين أصعب اختيار، لأنّ فيه خطورة كبيرة. كان لديّ خيارات كثيرة، إمّا أن أحضر ممثّلًا محترفًا دون تجربة سابقة في الاعتقال، أو أن أحضِرَ ممثّلًا مع تجربة اعتقال سابقة. لو أحضرت ممثّلًا دون تجربة سابقة في الاعتقال لظهر سؤال اغترابه عن البقيّة، مثلما حدث مع منذر جوابرة، الفنّان التشكيليّ، الّذي كان صديقي وسألني ما الّذي أشتغل عليه وقلت له أشتغل على شيء عن المسكوبيّة، فقال لي أريد المشاركة، وسألته إن كان سُجِنَ من قبل، فقال لا، خُذْني واسجُنِّي. عندما قال لي ذلك فكّرت بأنّ ثمّة شخصيّة مثيرة للاهتمام هنا، ولكنّها ستكون معزولة عن بقيّة الشخصيّات، وهذه العزلة ستفتح لي منظورًا جديدًا في التعامل مع الأشياء، وهذا فعلًا ما حدث.

لقد فضّلت أن يلعب ممثّل محترف دور السجين، بحيث يكون قادرًا على التعامل مع مشاعره خلال التصوير، وبعد انتهائه يكون قادرًا على العودة إلى طبيعته ويتعامل مع الأشياء الّتي تتحرّك داخله. رمزي فعل الأولى، ولكنّ الثانية لم يُرِدْ فعلها، أو لم يتمكّن، لا أعرف، فالتجربة صعبة وليست سهلة. لا أعرف لماذا، كما أنّني لا أعرف لماذا تمكّن الآخرين من فعلها، بل ظهرت لديهم حاجة للتعامل مع دواخلهم، مثل عدنان حطّاب الّذي حدّثني عن أخيه الّذي حاول قتل نفسه وبكى، وبعد يومين عاد إليّ يشكرُني ويقول لي أنّ الكلام عن الأمر أراحه وكأنّ شيئًا انزاح عن صدره. كلّهم ظهرت لديهم حاجة للتفريغ وكانوا حقيقيّين، حتّى محمّد خطّاب الّذي أعتقد أنّه صخرة، فجأة تكشّفت هذه الإنسانيّة لديه أمام صورة والدته. لا أعرف لماذا رمزي لم يتمكّن من فعل ذلك، ولكنّ الفيلم تجربة، ولو غيّرت أحدًا منهم لتغيّر الفيلم بأكمله.

 

فُسْحَة: شعرت للحظة أنّك استدرجتهم إلى اللحظة الّتي يسجنونك فيها، كأنّ لديك رغبة في حدوث الأمر ولكن دون أن يكون مخطّطًا له الحدوث.

رائد: وكانت رغبتهم كذلك، هم أمسكوني ووضعوني في الزنزانة وأغلقوا الباب عليّ وقالوا للمصوّر إذا أردت اشتغل معنا، ليس ثمّة مخرج اليوم. هذا غير موجود في الفيلم ولكنّه حدث بالفعل. انظُر، صنعت الشخصيّات، ولكنّني أيضًا صنعتُ نفسي معها، لأنّني كنت قد وضعت تحليلًا مبدأيًّا للرحلة وإلى أين قد تصل الشخصيّات على مدار العمل، وسألت نفسي من أنا في الفيلم؟ وهنا كان يجب أن أكون صادقًا مع نفسي، فقلت ببساطة أنّني مخرج عاد بعد 25 عامًا إلى السجن الّذي اعتُقِلَ فيه، وهو يملك اليوم سيطرة مطلقة؛ سيطرة السينما، الكاميرا. لقد عدت لأبني المكان، ولذلك تراني في المشهد الافتتاحيّ أدخل مع محمّد عطا والكيس على رأسه، وأسأله أين مكتب الكولونيل، ويُشير إلى مكان فأضع المكتب وأجلس وراءه وأقول لهم: أنا الكولونيل اليوم. أعرف أنّ المشروع كان حاجة مرضيّة لممارسة السيطرة الّتي مُورِسَت عليّ وأنا عمري ثمانية عشر عامًا، وذلك واضح في الفيلم وأتعامل معه، ولو لم أكن قادرًا على التعامل معه لكان فيلمًا كارثيًّا.

 

فُسْحَة: هل شعرت أنّك انتقلت من دور المُعالَجِ في «صداع» إلى دور المُعالِجِ في «اصطياد أشباح»؟

رائد: أبدًا، لا أرى الأمر بهذه الطريقة. أعتقد أنّني استخدمت بعض الأدوات وجيّرتها سينمائيًّا، ولكن أبدًا لم يكن لديّ أيّ نيّة لمعالجة أيّ شخص.

 

فُسْحَة: هل تأذّى أحد خلال العمل على الفيلم أو بعده، وكيف كنت تتعامل مع هكذا مواقف؟

رائد: لا أعرف، انظُر، أعتقد أنّ الكلّ من دون استثناء كان في وضع غير مريح، ولكن من الغريب كيف كان الأمر متناقضًا حتّى معي. مثلًا، كنّا نخبر الشباب أنّ اليوم الخميس وسنصوّر مشهد تمثيل فقط، فلا داعي لحضوركم جميعًا عدا الممثّلين، فنجدهم جميعًا وقد أتوا إلى موقع التصوير. محمّد خطّاب قالها لي على الكاميرا، قال:"رائد خلص، المشروع يجب أن يتوقّف، أنا آتي إلى هنا وأشعر بالضغط، أخرج من هنا وأريد العودة، ما أن أنتهي من العمل حتّى أعود إلى هنا يا رائد".

أعتقد أنّ السلوك مركّب، هو مؤلم ولكن في الوقت نفسه هو حاجة. في الأسبوع الثاني لم يعد المشروع مشروعي، بل أصبح مشروعهم، صار لديهم احتياج حتّى لبناء الزنازين بأدقّ تفاصيلها وأنا أقول لهم لا حاجة لذلك. مشهد الأطفال لم أكن موافقًا عليه، ومن ثمّ استشرت معالجة نفسيّة. في لحظة من اللحظات شعرت أنّ الأمور تخرج عن السيطرة وحاولت إيقاف مسار الأمور.

 

فُسْحَة: بدافع المسؤوليّة؟

رائد: بدافع الارتباك، أنا نفسي لم أكن سويًّا طوال الوقت، لم أكن دائمًا مسيطرًا. ثمّة لحظات شعرت فيها بارتباك وفقدان كامل للسيطرة. التجربة كلّها مركّبة، الناس وخلفيّاتهم، وقصصهم، وظروفهم الخاصّة؛ هذه الأشياء كلّها الّتي تألّف الفيلم منها ولذلك أصفه بالفيلم الجماعيّ، فيلم هذه المجموعة تحديدًا، لأنّك لو غيّرت أحدهم لتغيّر الفيلم بأكمله، وذلك ما صنعته الصدفة. بقدر ما تحاول السيطرة على الصدفة، في النهاية تظلّ قادرة على لعب دور مهمّ في صناعة الأشياء.

 


 

أنس إبراهيم

 

 

 

كاتب وباحث ومترجم. حاصل على البكالوريوس في «العلوم السياسيّة»، والماجستير في «برنامج الدراسات الإسرائيليّة» من «جامعة بير زيت». ينشر مقالاته في عدّة منابر محلّيّة وعربيّة، في الأدب والسينما والسياسة.